الأربعاء، 30 يوليو 2014

حسرة ثنائية اللغة، وخجل مترجم


* * *

(رفض نشر هذه المقالة لأسباب عدة، للأسف باتت واضحة؛ انشره هنا، متمنيا أن يأتي يوم فيه يعلن عن تضامن باللغة العربية، وبدون تأتأة، مع ضحايا مجازر تُقترف في مناطق أخرى من العالم.)  

* * *


سيلفانا رابينوفتش*


في ذكرى إسماعيل محمد بكر (9)، محمد رامز بكر (11)، زكريا عاهد بكر (10)، وعاهد عاطف بكر (10)، وفي ذكرى جميع الضحايا في غزة في الأيام الأخيرة، وفي 2012، وفي 2009... فهؤلاء، مثلهم مثل الملايين من الناس من كافة الأديان والأمم، هم من ضحايا اللاسامية، وضحايا اللاسامية، على حد قول الفيلسوف اليهودي إيمانويل ليفيناس، هم ضحايا العدائية تجاه البشر.

أكتب هذا الكلمات وأنا أرتجف وأرتعش على صوت أغنية لخافا ألبرشطين بالعبرية تقول "لكل إنسان اسم" (مأخوذة عن قصيدة قديمة للشاعرة زيلدا)، وأقبل المرة تلو الأخرى أيادي أولئك الذين يتحملون مسؤولية تذكير العالم بأن لكل ضحية اسم، وأن هذا الاسم هو عبارة عن نسيج من الحب والشوق عملت على تحييكه أجيال كاملة من البشر.[1] أتذكر أيضًا كاتب قصص الأطفال الإسرائيلي، أوري أورليف، الذي كان طفلًا في غيتو فارسوفيا خلال الحرب العالمية الثانية؛ يقص أورليف كيف كانت الأطفال، وهي محاطة بالموت، كيف كانت تلهو وتلعب... فالأطفال، لا يهم المكان، اللغة أو العصر المسجونة فيه، فهي متشبتة بحقها في اللعب. 

الأسماء... الأسماء... تلك الأسماء أُعطيت لأصحابها، الوافدين الجدد لهذا العالم، كرمز للأمل المستشري عند الأجداد. منها يُنسج "التاريخ الصغير"، القصص الصغيرة، التي قليلًا ما تصل كتب التاريخ والأساطير. فهناك أسماء أخرى يسجّلها "التاريخ الكبير"، تسجلها القصص الكبيرة. هذه الأسماء، على عكس الأسماء الصغيرة السابقة، لم تُعطى بحب ورجاء، بل بتكبّر وطموح أناني. هذا القطاع من الأرض، قطاع غزة، يستحضر قصة انتحار شمشون في التوراة، واسم القطاع، الذي يُكتب كـGaza بالأسبانية، يُكتب وكـ עזה بالعبرية، ومعناها "قوية".[2] سمعت أحدهم يعلّق قبل أيام أن أطفال غزة من سن الخامسة يخضعون لقصف بشع وطويل للمرة الثالثة في حياتهم. أود في هذه المقالة استحضار أسماء هؤلاء الأطفال.

في عام 2008، خلال عيد الحانوكا عند اليهود، كان الأطفال اليهود، مثل في كل عيد، كانوا ينشدون أغنية للشاعر حاييم نحمان بياليك وهم يلعبون بدولاب صغير يلف ويدور على الأرض رأسه مصنوع من الرصاص المصبوب. غناء الأطفال اليهود كان بمثابة ألهامًا لأحد قادة إسرائيل العسكريين، وهكذا أقترفت مجزرة  كان ضحاياها أكثر من 300 قاصر فلسطيني، مجزرة أُطلق عليها أسم هذه اللعبة.[3] في نوفمبر 2012، جرى أختيار اسم يحمل جذور توراتية ليرافق قصف غزة، وفي هذه المرّة وقع أسم ענן עמוד، أي "عامود السحاب" (وليس "عامود الدفاع"، مثلما تُرجم للأنكليزية)، لأستحضار، بوقاحة، عامود السحاب الذي حمى الله اليهود فيه من الشمس عند خروجهم من مصر.[4] قبل بضعة أيام، أستولت القوات المسلحة على إسم توراتي آخر، "حارس لأخي"، من قصة قايين وهابيل لأطلاقه هلى حملة مداهمة الفلسطينيين وأعتقالهم بحجة العثور على المسؤولين عن خطف ثلاث شباب إسرائيليين وقتلهم.[5] اليوم نحن أمام اسم عبري آخر (مع أنه ليس توراتيًا) والذي، كغيره، يستحضر القوة المطلقة: "تسوك إيتان" (צוק איתן)، أي "الجرف الصامد". يحكى أن العسكريّ الإسرائيلي أختار هذا الأسم بعد أن رأى أمام أعينه قوات جيش الدفاع الإسرائيلي وهي تصمد أمام العدو، بينما الشعب يبقى في الصفوف الخلفية ويدعمه كالجرف. ولكن، كما نعلم، عند الترجمة عادة ما يجري تلطيف الواقع بعبارات أكثر رقيقة منها عن لغة الأصل، وهذا ما حصل عند ترجمة أسم العملية هذه إلى الأنكليزية كـ"Protective Edge"، أي "الحافة الواقية"، وهكذا وصلتنا إلى اللغة الأسبانية كـ"Margen protector"، وكأن العملية العدوانية التي شنتها إسرائيل هي دفاعية.

هكذا تجري عملية أجتياح "التاريخ الكبير" للـ"التاريخ الصغير"، الرواية الكبيرة للرواية الصغيرة، من خلال قتل البشر. لهذا السبب قامت في عام 2009 مجموعة من المكسيكيين (العديد منا من اليهود المكسيكيين، بحيث لم يكفينا شعار "ليس باسمنا/  Not in our name") بإطلاق مبادرة تحت شعار "تبنى طفلًا ميّتًا" المفعم بالخجل والألم. لا يزال هذا الشعار يثير الغم في النفس. أن تدعو إلى تبني طفل ميّت معناه أن تدعو إلى ما لا يستطيع المرء تحمله، ولذلك فهو مستحيل. لم نكتفي بالشعارات التي تثير في حامليها الشعور بالرضا بالنفس والأكتفاء الذاتي. أردنا شعار يحرّض المرء على الذاكرة. أن تتبنّى طفلًا ميّتًا يعني أستحضار الظروف التي جرى فيها تعليق المباراه التي كان يلعب فيها الطفل حتى أشعار آخر لن يجيء أبدًا، أي الانفجار الناجم عن سلاح يجري تفعيله بواسطة شاشه تلفزيونية من قبل جيش قوي يفتخر بتقنيته العالية ودقّته في التشخيص. أن تتبنى طفلًا ميّتًا يعني مقاومة مصطلح "أضرار جانبية"، الذي يجري أستخدامه هنا وهناك لتلطيف الواقع. أن تتبنى طفلًا ميّتًا لا يعني سلب حق أسرهم في الذاكرة، أنما أسماع العالم الغربي دوي أسماء هؤلاء البشر الذين، بالنسبة له، هم غير مرئيين. أن تتبنى ذاكرة طفل ميّت هي أن تكذّب تلك العواطف الكاذبة، فهنا لا نتساءل عن المصير والمستقبل.

هذا الاسم الفظيع الذي أطلقناه على مبادرتنا يقع على ملتقى طرق يجمع بين "التاريخ الصغير" و"التاريخ الكبير"، بين القصة الصغيرة والقصة الكبيرة. ومثل أبو الهول في قصة أوديب عند الأغريقيين، الذي كان يعترض الناس في الطرق ويطلب منهم الحل للغز معيّن، هكذا يطل علينا شعار "تبنى طفلًا ميّتًا"، إذ يتحدانا بلغز قد يكون حلّه موجودًا في الضعف البشري (وهذا الضعف قد يكون الوحيد القادر اليوم على فرض وقف العنف القاتل الذي يمارسه إخواني، البعيدون جدّا عن التألق بالمجد والشرف).


*باحثة وعالمة فقه أرجنتينية في فقه اللغة في الجامعة الوطنية في المكسيك (UNAM). صاحبة كتاب "عن التوراة والطائرات بدون طيار: عن استغلال الرموز التوارتية والإساءة لها في الخطاب السياسي الإسرائيلي" (دار IEPALA، مدريد، 2013). عضو مؤسس في المبادرة المكسيكية "تبنى طفلًا ميّتًا" ضد قتل الأطفال في غزة منذ 2009.



[2]  وصل هذه البقعة من الأرض واستقر فيها الفلستيون، وهو شعب قوي عرف صهر الحديد واستخدامه. شمشمون، بدوره، قام بأول عملية أنتحارية دونها التاريخ ضد الفلستيون.
[3]  رقم الضحايا مستوحاة من موقع بتسيليم، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الأنسان في الأراضي المحتلة: http://www.btselem.org/statistics/fatalities/during-cast-lead/by-date-of-event.
[4]  وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَاراً فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ - لِكَيْ يَمْشُوا نَهَاراً وَلَيْلاً. لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ السَّحَابِ نَهَاراً وَعَمُودُ النَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ الشَّعْبِ (الخروج 13:21)
[5]  فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟ «(سفر التكوين، 4.9).

ليست هناك تعليقات: