الأربعاء، 7 مايو 2008

لمن تجاوز الأربعين منّا (ولمن لم يتجاوزها، كي تفهمونا...)

إدواردو غاليانو*
ليس بإمكاني تكملة مسار حياتي في هذا العالم؛ فعندما يخطر على بال أحدهم إدراج وظيفة جديدة على جهاز ما أو تصغير حجمه، فهذا أمر عليّ بتبديله، أي الموديل القديم بجديد.

ليس بعيدًا ذلك الزمن عندما كنّا أنا وزوجتي نغسل حفّاظات أطفالنا وننشرهم على حبال الغسيل مع ملابسنا، وبعد ذلك نكويهم ونطويهم حتى يتلطّخوا مرّة أخرى. أمّا هم، أي أطفالنا، بالكاد كبروا وأنجبوا أطفالا وها هم يقذفون بكل ما بوسعهم قذفه إلى الزبالة (ومن ضمن ما يقذفونه حفاظات أطفالهم)؛ لقد سلّموا نفسهم لكل ما يصلح استعماله لمرّة واحدة، عديمو الضمير!

كان من غير المعقول بالنسبة لجيلنا قذف أي شيء بحوزتنا؛ حتى الأشياء التي يصلح استعمالها لمرّة واحدة فقط، حافظنا عليها. أذكر أننا في ذلك الزمان غير البعيد كنّا نحافظ، إن سالت منّا، على مخاطتنا في جيوب بناطيلنا، وكانت أخواتنا وصديقاتنا، فيما بعد، يمزجوه بالقطن لمواجهة عادتهنّ الشهريّة.

أرجوكم، لا تتهموني بأنّي أدافع عن زمن أفضل قد ولـّى! ما حدث لي هو التالي: لقد عثرتُ عن مساري في هذا العالم، سقطتُ من كوكبنا ولا أعرف من أين أدخله من جديد؛ فليس بمقدوري تبديل جهاز "الستيريو" مرة كل سنة، والخلوي كل ثلاثة شهور، و"المونيتر" في الحاسوب على مواسم الأعياد. أعترف لكم: أحافظ على كؤوس البلاستك، وأغسّل كفوف الجلي واستعملهم مرة ثانية.

أنا قادمٌ من زمن، ليس ببعيد جدًا، كنّا نشتري فيه السلعة لتخدمنا مدى الحياة، بل لتخدم مدى حياة من هو قادم من بعدنا؛ من زمن كنّا نرث ونورّث ساعات الحائط، وأوراق الشدّة، وأكياس الزوادة وحتى الأواني الفخاريّة التي بصق فيها أجدادُنا تبغهم بعد مضغه. والحصيلة؟ لا توجد حصيلة؛ فإذا قمنا بإحصاء عدد الأفران التي كانت بحوزتنا أنا وامرأتي خلال سنين زواجنا القليلة فسيفوق عددها أفران حارتنا أيام صباي. وأكثر من ذلك، فأعترف أنّنا قمنا بتبديل الثلاجة ثلاث مرّات.

ولكنّي قفشتهم، فهم يفعلوا كل هذا بنا عمدًا! فكل ما يصنعونه محكوم عليه مسبقا بالخراب والصدأ، أو بالاستهلاك قصير المدى والتبديل.

سبق وقرأت، عن مصدر ما لا أذكره، أن كميّة القمامة التي أنتجت خلال آخر أربعين عام تفوق كميّة ما أنتج من قمامة خلال تاريخ البشريّة بأسره. من منكم من دون الأربعين لن يصدّق الذي سأخبركم إياه: ففي أيّام صباي، لم تكن هناك شاحنة لجمع النفايات في مدينتنا؛ فالنفايات جميعها كانت عضويّة ومصيرها بطون الدجاجات والبطّ والأرانب، وأما ما لا ينفع معداتهم فقمنا بحرقه. البلاستيك والنايلون لم تعرفهم البشريّة بعد، والمطّاط عرفناه كعجالة للمركبات المارّة وليس أكثر.

فمن ذلك الزمن أنا قادم، وهو ليس ببعيد جدًا. أكرّر وأشدّد: لا أدافع عن زمن أفضل قد مرّ. ولكنّه من الصعب جدا لشخص بائس مثلي أن يقوم بالانتقال من عقليّتي القديمة التي ترشدني على الحفاظ على كل ما أملكه، والظنون أن كل شيء أملكه سيصلح لأمر ما ذات يوم، إلى العقليّة الحديثة التي تقضي بالشراء والرمي بحسب الموديلات. أصدقائي وأقاربي يبدّلون، أسبوعيًا، فضلا عن جهاز الخلوي وأرقام الهواتف، يبدلون العنوان الالكتروني وحتى المسكن. وكيف سأقاوم كل هذا، أنا الذي علـّّموه على العيش مدى الحياة مع نفس الرقم الهاتف، وذات المسكن، وذات المرأة وذات الاسم؟

لم يكن بوسعنا أن نحكم بالإعدام على الأشياء؛ زمننا كان خاليًا من حكم الإعدام (على الأشياء): علب التنك تحولت إلى مزهريّات، قناني البلاستك الأولى زينّا بها ساحة الدار، علب البيض خزنّا بها ألوان الرسم، علبة البيرة وضعنا بها أقلام الحبر، فلينة فنينة النبيذ ضمّناها إلى العديد من أخواتها داخل قنينة أخرى.وأخيرًا، لن أقترف خطيئة تشبيه الإنسان بالأشياء. أفضّل قتل نفسي على أن أباشر الحديث عن الذات الآخذة بالفقدان، الذاكرة الجماعيّة التي تقذف يوما بعد اليوم، العجائز الذين يعلن موتهم عند تلف أحد أعضاء جسمهم. لن أخلط الحابل بالنابل، أردت فقط الحكاية عن حفاظات وهواتف خلويّة، لا أكثر ولا أقل.

_______________________________

*كاتب، صحافي ورسّام كاريكاتير من الأوروجواي. عمل في الستّينات محرّرًا في صحيفة "مارشا" (Marcha) في مونتفيديو حتى تم إغلاقها على يد عصابة الجنرال بوردابيري الفاشيّة، التي تسلّمت الحكم في الأوروجواي عام 1974. بسبب تقرّبه من حركة "لوس توباماروس" (Los Tupamaros) الماركسية أضطر غاليانو إلى اللجوء في هذا العام إلى العاصمة الأرجنتينيّة بوينوس ايريس، التي سكنها حتى اضطرّ إلى اللجوء ثانية، هذه المرّة إلى اسبانيا، بعد الانقلاب العسكري الدموي في الأرجنتين عام 1976. يقطن غاليانو اليوم في مدينة مونتتفيديو، عاصمة الأوروغواي، والتي عاد إليها فور دحر الدكتاتورية العسكريّة هناك عام 1985. من أهم مؤلفاته كتاب "شرايين أمريكا اللاتينيّة المفتوحة" (Las venas abiertas de América Latina)، والذي يسرد فيه تاريخ الموارد الطبيعيّة لأمريكا اللاتينيّة، المنهوبة من قبل الاستعمار والامبرياليّة.
(عن الإسبانية: شادي روحانا)